تقرير حالة العالم 2010: من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الاستدامة

مثل تسونامي مدمر، أصبح الاستهلاك هو الثقافة السائدة في جميع أنحاء العالم … كل شيء في حياتنا أصبح يتمحور حول الاستهلاك، من  الاقتصاد إلى الزراعة إلى الصناعة إلى الإعلام…. لكن، ودون أن ندرك ذلك، فإن هذه الثقافة الاستهلاكية تقود الجميع إلى الهاوية، وما لم نفعل شيئاً لردع هذا الوحش الهائل فإننا نعرض أنفسنا إلى كوارث عالمية. لكن كيف يمكن لنا التحول من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة محورها الاستدامة وكيف يمكن للبشر أن يعيشوا دون أن يؤثروا سلباً على الأرض؟

هذا هو محور تقرير حالة الأرض 2010  State of the World  الصادر عن مؤسسة  مرصد الأرض World Watch Institute  التي مقرها واشنطن. هذا التقرير، الذي أعده أكثر من ستين عالماً ومفكراً، يبين بالأدلة العلمية أن النظام العالمي الحالي القائم على الاستهلاك المفرط للموارد الطبيعية غير قابل للاستمرار وأنه سيؤدي إلى كوارث مدمرة. وعلى الرغم من أن التقرير يركز بشكل أساسي على الآثار البيئية لهذه الثقافة إلا أن لا يستطيع أن يغفل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لها. لكن التقرير لا يكتفي بعرض النصف الفارغ من الكوب بل إنه يسلط الضوء على المحاولات الجادة التي تهدف إلى نشر ثقافة الاستدامة، كما أنه يقترح طرقا ًواستراتيجيات أخرى لنشر هذه الثقافة.

ما هي ثقافة الاستهلاك

الثقافة هي الفنون والعادات والتقاليد والمعتقدات وأنماط الحياة السائدة في مجتمع ما، لكنها ليست منظومة قائمة بحد ذاتها بل إنها نتيجة تفاعل مجموعة كبيرة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والإعلامية…

يعيش الناس ضمن منظومات ثقافية تصيغ طريقة تفكيرهم وتتحكم بسلوكهم وتحدد ما يرونه “طبيعياً” في حياتهم. تبنى هذه المنظومات الثقافية على مجموعة من الأفكار والقناعات التي تنتقل من جيل إلى آخر وتوجهها المؤسسات الثقافية المهيمنة (كالمؤسسات الدينية والإعلامية على سبيل المثال).

أما ثقافة الاستهلاك فيعرفها العالم البريطاني بول إيكنز على أنها توجه ثقافي يصبح فيه امتلاك واستخدام عدد أكبر من السلع والخدمات هو الهدف الأسمى، والسبيل الوحيد نحو السعادة وتحقيق المكانة الاجتماعية والنجاح. بمعنى أن الناس أصبحوا لا يجدون سعادتهم إلا في شراء وامتلاك المزيد من السلع، وأصبح مقدار ما ينفقه المرء على السلع الكمالية هو دليل على النجاح والمكانة الاجتماعية المرموقة.

من الواضح أن ثقافة الاستهلاك قد استحوذت على العديد من الثقافات البشرية في عصرنا الحالي لدرجة أنها أصبحت تبدو “طبيعية” وكأنها جزء من ثقافة المجتمع السائدة وتطور حتمي لها، والحقيقة أن المجتمعات البشرية تقوم بتحويل عناصر ثقافاتها من رموز وقيم وتقاليد لكي تتلاءم مع ثقافة الاستهلاك.

على سبيل المثال العديد من الطقوس والأعياد التي يحتفل بها الناس قد تحولت إلى مناسبات استهلاكية يتم فيها شراء المزيد من السلع حتى وإن كانت غير ضرورية، لدرجة أن الاحتفال بهذه المناسبات بطريقة بسيطة وغير مكلفة أصبح أمراً شاذاً نظراً للضغوط الاجتماعية والتأثير المتزايد للإعلانات التجارية. (مثلاً عيد الأم، عيد الحب… الأعياد الدينية كعيد الفطر أو عيد الميلاد…). حتى المناسبات الاجتماعية كالزواج أصبحت بنفس الطريقة شكلاً من أشكال الاستهلاك المفرط.

لكن هل ارتفاع معدلات الاستهلاك يزيد سعادة الناس؟

دعونا نتجاهل للحظة الخطر الذي تمثله ثقافة الاستهلاك على الأنظمة الطبيعية في كوكبنا، ونتجاهل حقيقة أن التدهور البيئي يشكل تهديداً على وجود الإنسان على المدى البعيد، ونطرح السؤال: هل زيادة الاستهلاك تجعلنا أكثر سعادة؟

من الناحية النفسية فإن من أهم العوامل التي تبعث في نفس الإنسان الشعور بالرضا هي: تمتعه بالأمان الاقتصادي والصحة ووجود معنى أو هدف لحياته.

عندما يحصل الإنسان على المزيد من النقود يتحسن شعوره بالأمان الاقتصادي وتزداد أمامه الفرص، لكن مع ازدياد دخله أكثر وأكثر فإن السعادة التي يحصل عليها من جراء ذلك تتناقص، حيث أنه سيعتاد على هذا المستوى الجديد من المعيشة. كما أن السلع التي كانت كمالية بالأمس ستصبح اليوم ضرورية، وسيكون هناك كل يوم سلع جديدة يجب الحصول عليها وهذا يدخل المرء في دوامة من الضغوط التي تنقص سعادته إلى حد كبير. فمثلاً منذ الستينات كان اليابانيون يعتبرون امتلاك مروحة وغسالة وآلة لطبخ الرز أمراً أساسياً لتحقيق مستوى معيشة مرضي. اليوم أصبحت القائمة لدى معظم الناس تشمل إلى جانب ذلك السيارة والمكيف والتلفزيون الملون، وفيما بعد الهاتف الخليوي والكومبيوتر.

من التأثيرات السيئة أيضاً لنمط الحياة الاستهلاكي هو زيادة ضغط العمل وضغوط الحياة عموماً حيث أن الإنسان أصبح  يعيش ضمن دوامة مستمرة يضطر فيها لبذل المزيد من الجهد وكسب المزيد من النقود لإرضاء حاجاته الاستهلاكية المتزايدة، وهذه الضغوط تترجم إلى زيادة الأمراض نتيجة أسلوب الحياة غير الصحي والغذاء غير المتوازن والبدانة.

كيف نشأت الثقافة الاستهلاكية

تعود هذه الثقافة في جذورها إلى أوربا في القرن السابع عشر حين توسع إنتاج السلع نوعاً وكماً، وبدأ البحث عن أسواق جديدة لفوائض الإنتاج، ومع بداية القرن العشرين أصبح الاستهلاك يمثل جزءاً هاماً من مصالح الشركات والحكومات، كما ساهمت  المخترعات الجديدة في مجال التكنولوجيا والاتصالات كالتلفزيون والإنترنت في النصف الثاني من القرن على نشر هذه الثقافة في جميع أنحاء الكوكب .

في أربعينيات القرن الماضي، بدأت الحكومات تنظر إلى الاستهلاك على أنه المحرك لعملية النمو الاقتصادي، ففي الولايات المتحدة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية باقتصاد قوي كثيف الإنتاج كان تشجيع الاستهلاك هو الحل الوحيد لتجنب وقوع الاقتصاد في كساد (خاصة وأن ذكريات الكساد العظيم كانت لا تزال ماثلة في الأذهان). وكما يبين الاقتصادي الأمريكي فيكتور ليبو : “إن اقتصادنا ذا الإنتاجية الهائلة يتطلب منا أن نجعل من الاستهلاك هو نمط حياتنا، وأن نحول عملية بيع وشراء المنتجات إلى طقس مقدس، أن نجد أنفسنا ورضانا ونملأ فراغنا الروحي في الاستهلاك”. ومن الولايات المتحدة انتشرت هذه النظرة إلى الاستهلاك لتغزو العالم.

الاستهلاك بين الأغنياء والفقراء

من البديهي أن الأغنياء مسؤولون عن جزء كبير من الاستهلاك وبالتالي فإن ضررهم البيئي أكبر بكثير. تقول دراسة أن 500 مليون شخص غني (أي 7% من سكان الأرض) مسؤولون عن إنتاج 50% من غازات ثاني أكسيد الكربون في العالم، في حين أن 3 بليون الأفقر ينتجون فقط 6%. طبعاً فالأغنياء يمتلكون منازل أكبر، يسافرون بالسيارات والطائرات، يستهلكون كميات أكبر من الكهرباء والطعام ويشترون المزيد من الأشياء.

في الدول الغنية حيث الاستهلاك هو نمط الحياة السائد يعيش فقط 16% من سكان الأرض، إلا أن نسبة استهلاكهم إلى الاستهلاك العالمي تصل إلى 78%! الناس في الولايات المتحدة وحدها أنفقوا 32% من الاستهلاك العالمي مع أن عددهم لا يتجاوز 5% من سكان الأرض!

أما في الدول النامية فقد أصبحت السلع الاستهلاكية متاحة أكثر من ذي قبل، كما بدأت القوة الشرائية للأفراد تزداد، لهذا فإن أي زيادة في الدخل ستترجم حتماً إلى زيادة في الاستهلاك. تبدأ الأسرة بتأمين السلع الضرورة كالبراد والغسالة، ثم تبدأ في شراء السلع الكمالية كالمكيف ومشغل الـDVD، وفي بعض الأحيان يصبح السفر الجوي متاحاً أكثر. 

الدول النامية تنظر إلى الدول المتقدمة على أنها مثال وقدوة وتحاول أن تحذو حذوها وتتبنى نمط معيشتها. لكن لو أن جميع الناس على الأرض أصبحوا يعيشون نمط الحياة الأمريكي، سنكون وقتها بحاجة إلى خمسة أو ستة من كواكب الأرض لكي نلبي احتياجاتهم! طبعاً هذا غير ممكن لأن لدينا كوكب واحد وموارده محدودة، وهو يضم الآن 6.8 بليون إنسان. أما الحل الآخر فسيكون تخفيض عدد الناس إلى 1.4 بليون! وحتى مع معدلات استهلاك أقل فإن كوكبنا سيظل عاجزاً عن تأمين الموارد الكافية لجميع سكانه وهذا هو السبب الذي يدعونا للبحث عن أنماط حياة مستدامة.

يتبع في الجزء الثاني

ترجمة وإعداد: ناديا عطار