تقرير حالة العالم 2010: من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الاستدامة- الجزء الثاني

نتابع في الجزء الثاني استعراض تقرير حالة العالم 2010، للعودة إلى الجزء الأول 

المؤسسات الاجتماعية ودورها في نشر وتعزيز  الثقافة الاستهلاكية

أولاً – الشركات التجارية

من المؤكد أن الشركات التجارية هي القوة التي تقف وراء انتشار هذه الثقافة، فهي تحقق الأرباح من جراء بيع منتجاتها ولابد لها من بيع المزيد لكي تعاظم أرباحها، حتى لو اضطرت في سبيل ذلك إلى تغيير ثقافة الناس و”برمجة” تفكيرهم بما يتفق مع مصالحها. ولتحقيق ذلك تتبع الشركات التجارية العديد من الأساليب مثل:

بطاقة الائتمان والبيع بالتقسيط وهي طرق تسمح للمستهلكين بشراء سلع تتجاوز قيمتها قدرتهم الشرائية الحالية

تصميم المنتجات بحيث يكون عمرها قصيراً، فإما أن تفنى سريعاً، أو تصبح عتيقة الطراز بحيث يضطر المستهلك لاستبدالها حتى لو كانت ما تزال في حالة جيدة وتؤدي وظيفتها بشكل كامل.

وطبعاً فإن الوسيلة الأهم هي التسويق والإعلان والذي أصبح ميزانية ضخمة بلغ حجمها 643 بليون دولار في عام 2008 وحده. لقد أثبتت الدراسات التأثير الكبير للإعلان على سلوك المستهلك وخياراته، خاصة لدى الفئات الأكثر عرضة للتأثر كالأطفال واليافعين. تصمم الإعلانات وحملات الدعاية بصورة استراتيجية ومدروسة جداً من حيث توقيتها والجمهور الذي سيتلقاها والرسائل التي تحاول بثها، مما يجعلها شديدة التأثير. يتعرض الإنسان الحديث على مدى حياته إلى “جرعات” هائلة من الإعلانات لذلك ترتبط المنتجات عموماً في ذهنه مع صور ورسائل إيجابية، ويبدو هذا التأثير أكثر وضوحاً في الأطفال الذين لا يستطيعون التمييز بين الإعلان وبين الواقع مما يجعلهم عرضة أكثر للتأثير الإعلاني.

ولا يقتصر الإعلان على الأسلوب المباشر وحده بل إن هناك العديد من الأساليب غير المباشرة التي تستخدم للترويج للسلع، نذكر على سبيل المثال “إظهار المنتجات” أي عرضها بطريقة استراتيجية في الأفلام والبرامج التلفزيونية بحيث يرتبط المنتج في ذهن القارئ مع الشخصية أو الفلم، وهذه الطريقة أثبتت نجاحاً كبيراً لدرجة أن الشركات الأمريكية ضاعفت إنفاقها على إظهار منتجاتها أربعة أضعاف خلال الـ15 سنة الماضية. إلى جانب ذلك فإن إظهار المنتجات يؤثر على اختيارات الناس وسلوكهم، فقد أظهرت الدراسات على سبيل المثال وجود علاقة قوية بين تدخين السجائر في الأفلام وبين ميل الشبان والمراهقين نحو التدخين.

الإعــلام

يعتبر الإعلام الأداة الأقوى القادرة على تغيير العادات والتقاليد والثقافة السائدة في المجتمع. يقول العالم دوان إلين: لكي تسيطر على مجتمع ما لست بحاجة لأن تسيطر على المحاكم أو الجيش فيه، كل ما عليك عمله هو أن تسيطر على قصصه، والتلفزيون والإعلام هو الذي يروي معظم القصص لمعظم الناس معظم الوقت.

ما بين التلفزيون والسينما والإنترنت، أصبح الإعلام هو المسيطر على حياة الناس ووقتهم. في عام 2006 كان 83% من سكان الأرض لديهم تلفزيون، و21% متصلون بالإنترنت. أضف إلى ذلك الراديو والصحف والمجلات ودور السينما وستجد أن التعرض إلى وسائل الإعلام يستغرق ثلث النهار لدى معظم سكان الأرض.

خلال هذه الساعات تركز معظم منتجات الإعلام على تعزيز الأنماط الاستهلاكية والترويج للقيم المادية، إما بصورة مباشرة عن طريق عرض أساليب الحياة المترفة التي يعيشها المشاهير والأغنياء، أو بصورة غير مباشرة عن طريق القصص التي تعزز القناعة بأن السعادة تأتي من تحسين الأوضاع المادية ومن شراء سلع جديدة واتباع الموضة… إلخ. تظهر إحدى الدراسات أنه مقابل كل ساعة إضافية يقضيها المرء أسبوعياً أمام التلفزيون فإنه ينفق 208 $ زيادة على شراء مزيد من السلع.

الحكـومات

تقدم الحكومات الدعم للشركات التجارية بعدة وسائل منها: الدعم الحكومي خاصة لقطاعات النقل والطاقة حيث أن الحصول على هذه الخدمات بأسعار زهيدة ينعش عملية الإنتاج. أحد وجوه الدعم أيضاً ألا تفرض على الشركات تحمل الأثر البيئي والاجتماعي لعملها، فمثلاً تسمح لها بتلويث الجو أو الماء دون أن تفرض عليها تكاليف إضافية مما يجعل تكلفة الإنتاج متدنية ويسمح بالبيع بأسعار أقل. في الحقيقة إن العديد من التشريعات الحكومية تقودها المصالح التجارية وهذا يتوقف على مدى تأثير الشركات على السلطة التشريعية. يلاحظ هذا التأثير بوضوح شديد في الولايات المتحدة حيث تنفق الشركات التجارية بلايين الدولارات لتشكيل قوى ضغط (لوبي) سياسية. ومن الطريف تذكر انه في عام 2001 وبعد هجمات الحادي عشر من أيلول وقف جورج بوش وتوني بلير وعدد من الزعماء الغربيين متحدثين إلى شعوبهم في محاولة لتهدئة روعهم وكانت نصيحتهم هي: اخرجوا وتسوقوا!

ثقافة الاستهلاك تستنزف موارد الأرض

إن الاستهلاك المتزايد للسلع والخدمات، مترافقاً مع الزيادة في عدد البشر، يرافقه بالتأكيد ارتفاع مقابل في استهلاك الوقود الأحفوري والمعادن والفلزات التي تستخرج من الأرض وارتفاع في معدلات قطع الأشجار من الغابات واستخدام المزيد من الأراضي للزراعة والرعي، ولتقريب الأرقام يمكن القول أن العالم الآن يستهلك من موارد الأرض ما يعادل 112 مبنى بحجم الإمباير ستيت يومياً! 

إن استغلال موارد الأرض بهذا المعدل المفرط من أجل تلبية الحاجات الاستهلاكية المتزايدة للبشر يشكل ضغطاً متزايداً على الأنظمة الطبيعية للأرض، هذه الأنظمة التي تشكل عماد الحياة بالنسبة للبشر وجميع الكائنات الحية الأخرى. وقد وجدت دراسة تعود لعام 2005 شارك فيها 1360 خبيراً أن 60% من الانظمة  الطبيعية في الأرض (مثل تنظيم المناخ، تأمين المياه العذبة، التخلص من النفايات) إما متدهورة أو أنها تدار بصورة غير مستدامة. وقد كانت نتائج الدراسة مقلقة لدرجة أن واضعيها خلصوا إلى أن “النشاط البشري يشكل ضغطاً هائلاً على على الأداء الطبيعي لكوكب الأرض إلى حد أن قدرة الأنظمة البيئية على إعالة الأجيال القادمة لم تعد شيئاً مؤكداً”

من أبرز هذه الاضطرابات في الأنظمة الطبيعية وأكثرها وضوحاً وشهرة هو التغير المناخي. فاستهلاك البشر لكميات متزايدة من الوقود الأحفوري  والغذاء والأراضي للبناء…إلخ قد أدى إلى رفع كمية غاز ثاني أكسيد الكربون من مستواه الذي ظل ثابتاً طيلة ألف عام وهو 280 جزءاً بالمليون إلى 385 جزءاً، وإذا بقي هذا المعدل في ارتفاع فإن الأرض ستشهد تغيرات كارثية في مناخها خلال القرن القادم. على سبيل المثال تظهر بعض الدراسات أنه في حال استمرار الوضع على ما هو عليه فإن حرارة الأرض سترتفع بمقدار 5,1 درجة حتى عام 2100، وحتى في حال التزمت جميع الدول ببرامجها الطموحة الرامية إلى تخفيض انبعاث غازات الاحتباس الحراري فإن حرارة الأرض سترتفع 3.5 درجة مئوية، وهذا الارتفاع سيؤدي إلى:

  • ارتفاع مستويات مياه المحيطات بمترين أو أكثر نتيجة ذوبان ثلوج القطبين، ما سينجم عنه فيضانات وانغمار أجزاء كبيرة من المناطق الساحلية والجزر.
  • تحول أجزاء كبيرة من غابات الأمازون إلى سافانا
  • موت الشعاب المرجانية والقضاء على العديد من الأنواع السمكية
  • حوالي 1 بليون شخص سيضطرون إلى النزوح عن أراضيهم والتحول إلى لاجئين بحلول عام 2050

الأمر لا يقتصر على تغير المناخ، إنها واحدة فقط من البنود على قائمة المشاكل التي يتسبب بها الاستهلاك المفرط والتي تشمل  تلوث الهواء، القضاء على الغابات (بمعدل 7 مليون هكتار سنوياً)، تدهور التربة، إنتاج ما يزيد عن 100 مليون طن من النفايات الخطرة سنوياً، الاستغلال الفاحش للعمال من أجل إنتاج سلع أرخص، البدانة، ضغوط الحياة المتزايدة  … والقائمة تطول وتطول. نحن ندرك وجود هذه المشاكل ونشعر بها لكننا نتعامل بها بشكل منفصل دون أن نبحث عن الجذر الذي تتفرع عنه وهو ثقافة الاستهلاك السائدة.