الأردن: الزراعة الأصيلة في مواجهة الجفاف – تجربة قرية البيوضة

مترجم – النص الأصلي هنا

مع ارتفاع حرارة الأرض فإن المناطق الجافة في العالم تزداد جفافاً، وفي الأردن بدأت بعض القرى بالعمل لمواجهة هذا الواقع:

 آخر مرة هطل فيها المطل في قرية البيوضة كان في شباطومن وقتها والأرض تزداد جفافاً. يعرف الناس في الأردن أن بلدهم فقيرة بالمطر لكن عام 2008 كان قاسياً جداً. البيوضة قرية صغيرة يعيش فيها حوالي 3500 نسمة تقع بين وادي الأردن ومرتفعاته، تحيط بها بقايا من أشجار بلوط بري وحقول من الزيتون. رغم الجفاف فإن القرية تبدو أكثر خضرة من التلال المحيطة بها، فبيوتها الحجرية المتواضعة محاطة بالنباتات، والتي رغم جفافها فهي أفضل من لاشيء، وتحت الأشجار نجد العشب الجاف والنباتات المقاومة للجفاف.

حسب ما يقوله سميح نعيمات مدير مشروع الزراعة الأصيلة في منظمة كير الدولية فإنه في آخر موسم مطر تلقت المنطقة حوالي 60% فقط من معدل أمطارها السنوي. المعدل هو 400مم وعادة يستمر الموسم من تشرين الثاني حتى نيسان، أما في هذا العام فقد هطل المطر من كانون الأول إلى شباط فقط وكانت كميته حوالي 302 مم فقط.

يستشعر جميع المزارعين في الأردن نقص المياه، وقد لجأت الحكومة في وادي الأردن إلى منع الزراعة خلال أشهر الصيف، كما خفضت كمية المياه المتاحة للأراضي الزراعية.

منذ عدة سنوات تنبأ العلماء أن التغيرات المناخية سوف تؤدي إلى تحويل الأمطار باتجاه القطبين بعيداً عن المناطق التي هي أصلاً جافة. قد يكون نقص الأمطار الحالي في الأردن مجرد تقلب طبيعي في الطقس، وقد يكون نتيجة لتغير المناخ، لكن السؤال الأهم هنا هو ماذا سيكون مستقبل الزراعة في الأردن في حال كانت معدلات هطول الأمطار ستستمر في التناقص. في البيوضة هناك ثمانية مزارع صغيرة تحاول أن تواجه هذا الواقع.

بدأت الزراعة الأصيلة على يد العالم الأسترالي بيل موليسون الذي يعرفها بأنها “نظام يهدف إلى إنشاء مستوطنات بشرية مستدامة من خلال محاكاة البيئات المصطنعة للدورات الطبيعية واندماجها فيها.

فعلى سبيل المثال بدلاً من بناء منزل من الإسمنت يحبس الحرارة ويتطلب كمية كبيرة من الطاقة من أجل تبريده بصورة إلكترونية فإن الزراعة الأصيلة تشجع على استخدام مواد البناء الطبيعية العازلة للحرارة كالطين وتصميم البيت بحيث تكون مساحاته الداخلية محمية من حرارة الخارج. فلسفة الزراعة الأصيلة تبدأ من محاولة تحقيق الاستدامة على مستوى المنزل ومن ثم التوسع بها باتجاه الحديقة ومن ثم المزرعة فالمجتمع.

يشارك في المشروع في البيوضة  عدد من المزارع التي تملكها عائلات محلية، وهي تتلقى الدعم الفني والمساعدة من منظمة كير الدولية وبتمويل من مصرف HSBC. يشرح لنا مدير المشروع سميح نعيمات عناصر هذا النظام المتكامل الذي يتألف من بيت ومزرعة:

يتم جمع مياه الأمطار في مصائد على سطح المنزل، ويوجه عبر الأنابيب إلى نظام فلترة يستخدم الحصى والرمل لتنقية المياه من الشوائب، ثم تجمع المياه في بئر تحت الأرض ليمكن ضخها فيما بعد. بقايا الطعام تستخدم كطعام للدجاج الذي يترك ليسرح تحت الأشجار ويعمل على تهوية التربة. وهناك “جرارات” للدجاج عبارة عن هيكل بسيط من الأسلاك والخشب يمكن تحريكه لاحتواء الطيور وتستخدم هذه الهياكل لجمع زرق الطيور الذي يستخدم كسماد.

تتم مكافحة الطفيليات باستخدام خلائط طبيعية من البصل والثوم والتبغ والزيت. وهذه الخلائط إلى جانب كونها فعالة وغير سامة للبشر أو النباتات فإنها رخيصة الثمن ويمكن صناعتها منزلياً، أما المبيدات الصناعية فهي غالباً تعتمد على النفط ومعرضة لتقلبات حادة في الأسعار.

يتم تخمير (كومبوست) الفضلات العضوية لتحويلها إلى مغذي للتربة، ويضاف الكومبوست إلى النباتات ثم يغطى بالملش مما يمنع بخر الماء. الخطوط الكونتورية في الأرض تشكل مصائد للمطر فتؤمن الري الكافي للنباتات وفي نفس الوقت تمنع تدهور التربة. كما يتم الاعتماد على مراحيض الكومبوست من أجل تقليل الحاجة إلى المياه.

في الزراعة الاصيلة ليس هناك شيء إلا وله استعمال.

أحد الأنظمة الذكية يستفيد من ميل شجر الأوكاليبتوس إلى سحب المياه من الأعماق حيث يتم تجميع النباتات الأخرى حول هذه الشجرة على الرغم من أن هذه الشجرة تعتبر من الأنواع الغازية. في مركز الزوار التابع لمنظمة كير تمت زراعة شجر الأوكاليبتوس بالقرب من البالوعة حيث يتم تخمير فضلات المرحاض تحت الأرض. يقول نعيمات أن هذه الشجرة تعمل مثل مضخة مياه فهي تمتص مياه الصرف وتقوم بتنقيتها. وفي الحقيقة لم يكن هناك في الموقع أي رائحة سوى الرائحة المنعشة الخفيفة لشجرة الأوكاليبتوس.

أنظمة المياه الرمادية تسمح بإعادة استعمال المياه المستخدمة في المنزل للغسل والاستحمام (وليس المرحاض) عن طريق تدويرها في المزرعة مما يعني الاستفادة المضاعفة من المياه المنزلية ويحقق وفورات هامة للمزارعين، كما أنه يقلل من الأثر السلبي لاستخراج المياه من الأنظمة الطبيعية.

يعتبر الملش وسيلة هامة لكفاءة استخدام المياه في المزرعة، فهو يحبس المياه في التربة ويمنع التبخر وبهذا يستفيد المزارع من كل قطرة ماء. يرى نعيمات أن معدلات التبخر الطبيعي للمياه من الأرض هي مشكلة أساسية في صراع المنطقة مع الجفاف. فالمنطقة المحيطة بقرية البيوضة تتلقى وسطياً حوالي 350-450 مم من الأمطار سنوياً إلا أن معدلات التبخر تصل إلى 1500—1600 مم سنوياً. يقول النعيمات “معدل الأمطار في لندن هو 300 مم سنوياً لكن لا يحدث التبخر بنفس النسبة وهذا هو الفرق”.

عملت منظمة كير بالتعاون مع عدد من المتطوعين في القرية على إنشاء ثمانية مزارع تجريبية، كما أعادت تأهيل مبنى جمعية المتطوعين ليكون مركز تدريب. يعتبر المبنى نفسه جزءاً من الموقع النموذجي إذ يعود بناؤه إلى 120 عاماً حيث لم يكن هناك كهرباء للتدفئة والتكييف، ومع ذلك فإن جدرانه المصنوعة من الحجر والطين والتي تصل سماكتها إلى حوالي قدم تؤمن ملاذاً لطيفاً من شمس الصيف القائظ .

جاء هذا المشروع مكملاً لمشروع سابق قامت به منظمة كير وتضمن تحليل  احتياجات السكان المحليين من المياه من أجل الوصول إلى أفضل الممارسات لترشيد الاستهلاك.

أصبحت الزراعة الصناعية محط اتهامات متزايدة بأنها تدمر البيئة وتستهلك الموارد المائية وتؤدي إلى تدهور التربة، وبسببها أيضاً فإن أطناناً من المبيدات الحشرية والزراعية تصب في المياه وفي الأرض. من السهل علينا أن نطالب بأن تكون الزراعة أكثر استدامة لكن لب المشكلة هو السؤال: كيف يمكن إنتاج ما يكفي من الغذاء لإطعام العالم؟

يقول الخبراء أن القطاع الزراعي في الأردن يستهلك حوالي 70% من المياه المتوفرة في البلاد، في حين أن مساهمته في الناتج الإجمالي المحلي لا تزيد عن 4-6%، لذلك يرى البعض أن على الأردن أن تحد من نشاطها الزراعي وأن تمتنع عن تصدير منتجاتها الزراعية. في المقابل يرى مدير منظمة كير أن أهمية الزراعة في البلاد لا تقتصر على مدى مساهتمها في الناتج الإجمالي المحلي، فالزراعة تعتبر جزءاً من الهوية والثقافة المحلية، والجميع هنا لديهم جذور فلاحية بطريقة أو بأخرى. إن هذا الارتباط بالأرض سوف يدفع الناس في النهاية إلى إيجاد حل مناسب لمشكلة المياه. إلى جانب ذلك فإنه لا تتوفر فرص عمل كافية تعوض عن الفرص التي تخلقها الزراعة، وهذا يعني أن تراجع الزراعة سيؤدي إلى تدفق المهاجرين من المناطق الزراعية إلى عمان لتشكيل أحزمة بؤس حولها وهو بالطبع أمر غير مرغوب ولا مستدام. لذلك لا بد من إيجاد طرق للحفاظ على أسلوب الحياة الزراعي، ومن هنا تأتي أهمية مشروع كير.

إن كون المشروع  يعمل في الأرياف وعلى نطاق صغير هو أحد أسباب نجاحه. تقول هارييت داد مديرة المشروع في الأردن: نحن لا نأتي بوصفات جاهزة بل نحاول من خلال التجربة معرفة ما هو الأنسب لمجتمع معين.

لم يمض أكثر من عام حتى بدأت الحقول التجريبية بالازدهار، فالنباتات التي زرعت ففيها باستخدام تقنيات الزراعة الأصيلة نمت بشكل جيد وبدت عليها العافية، وأشجار اللوز التي فرشت الأرض تحتها بالملش وغذيت بالكومبوست أعطت محصولاَ أعلى بـ 30% من تلك التي لم تحصل على نفس الغذاء.

إلى جانب ذلك فإن استخدام أنظمة تكرير المياه الرمادية أدت وفورات كبيرة للعائلات التي استخدمتها: فقد تراجعت فاتورة مياه الشرب بمقدار 20 دينار لكل عائلة شهرياً، والمياه التي توفرها هذه الأنظمة كانت تستخدم لري النباتات العلفية للحيوانات مما وفر على العائلة أيضاً 55 دينار شهرياً كانت تنفقها على شراء الأعلاف. كما أن مراحيض الكومبوست ألغت الحاجة إلى تنظيف وضخ قنوات الصرف الصحي مما وفر على كل عائلة أيضاً 30 دينار شهرياً.

ساعدت الزراعة الأصيلة العائلات أيضاً على مواجهة الارتفاع في أسعار الغذاء. على سبيل المثال يقول النعيمات أنه مع ارتفاع أسعار البيض واللحم فقد وجد أنه من الأجدى له مالياً أن يقوم بتربية الدجاج بنفسه. تمكنت ثلاثة من المزارع التجريبية من تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل بالنسبة لمنتجات الدجاج، وهذا يعنى أن كل مزرعة كانت توفر حوالي 10 دينار شهرياً في البيض وحده، كما أنها تحقق ربحاً بسيطاً من خلال بيع الفائض من البيض المنتج. كما بدأت بعض العائلات بتربية البط للاستفادة من البيض واللحم.

هناك ثمانية مزارع فقط تعتبر مزارع تجريبية، إلا أن هناك ما يزيد عن 20 مزرعة في المنطقة أصبحت تستخدم الكومبوست. وسوف يتوسع المشروع قريباً بعد أن طلبت أربعة من القرى المجاورة الانضمام إليه.

يقول خبير الزراعة الدائمة  إيثان يونغ أن من أجل إحداث تغيير منهجي، كخلق تحرك واسع النطاق باتجاه ممارسات الإدارة المستدامة للمياه، لا بد من وجود مجموعة صغيرة من الناس تكون البادئة في تحفيز المجتمع بكامله، حيث يقول “إن 15% من الناس قد تستطيع أن تغير النظام الذي يعيش فيه الـ85% الباقون”.

 

ترجمة: ناديا عطار