أخلاقيات البيرماكلتشر وكيف نطبقها في عملنا

يمكن تعريف الزراعة المستدامة (البيرماكلتشر) على أنها نظام تصميم أخلاقي، فالأخلاق هي الأساس في عملية التصميم، و الإطار الأخلاقي هو الذي يحكم قراراتنا ويحدد لنا الخيارات الصحيحة, وربما كان هذا أحد أهم الملامح التي تميز الزراعة المستدامة عن العلوم الآخرى .

في كتابه المرجعي دليل المصمم يحدد بيل موليسون ثلاثة أخلاقيات أساسية للبيرماكلتشر:

رعاية الأرض: أي الاعتناء بكافة الموارد الطبيعية وإعادة بنائها، وهذا يشمل الكائنات الحية والأنظمة غير الحية كالماء والهواء والتراب

رعاية الإنسان: أي أن يوفر التصميم كافة احتياجات الناس الأساسية من ماء وغذاء وهواء، وغير الأساسية كالعلاقات الاجتماعية والسعادة والجمال والسمو الروحي

مشاركة الفوائض: بمعنى أن أي فائض يتم تحقيقه في التصميم يجب أن يسخر لخدمة الهدفين السابقين.

طبعاً هذه الأخلاقيات ليست جديدة فالكثير من المجتمعات تملك في تراثها وتقاليدها نفس هذه الأفكار، وهذا ما يجعل البيرماكلتشر مقبولة على نطاق واسع فهي تنسجم من حيث المبدأ مع الثقافات التقليدية، و ما تضيفه هو المبادئ والطرق التي تضمن ان يكون عملنا ضمن هذا الإطار الأخلاقي، فالمشكلة في العادة لا تكمن في الاتفاق على الأخلاقيات وإنما في كيفية ومدى تطبيقها

ethics

سنرى الآن كيف يتم تطبيق الأخلاقيات ضمن تصميم البيرماكلتشر

رعاية الأرض: Earth Care

أي الاعتناء بكافة المكونات الحية وغير الحية بما في ذلك الحيوانات، النباتات، المياه، الهواء، التراب.. وحمايتها ورعايتها لكي تبقى وتزدهر. هذا يعني أن التصميم يجب أن يأخذ بالاعتبار جميع هذه المكونات فلا يضرها بل على العكس يحترم احتياجاتها ويساعد على بقائها وتجددها، فمثلاً ليس من المقبول أن نعزز خصوبة الأرض (بالمواد الكيماوية) على حساب تلويث المياه والقضاء على الكائنات الحية والتنوع الحيوي في التربة، أو أن يعيش أحد أنواع النباتات أو الحيوانات على حساب القضاء على أنواع أخرى كما في الزراعة الأحادية أو الصناعية. إلى جانب ذلك فإن على التصميم أن يراعي حاجات النباتات والحيوانات الفطرية ولا يحاول تغيير فطرتها لكي تلائم حاجات البشر على سبيل المثال كما يحصل في التعديل الوراثي، أو في التربية الصناعية للحيوانات الداجنة (كالدجاج اللاحم الذي يوضع في أقفاص صغيرة ويعلف بعلف صناعي خاص يحفز نمو اللحم فيه بصورة خاصة فتنمو الدجاجات بصورة مشوهة وغير متوازنة والهدف من ذلك هو جعلها تنتج أكبر قدر ممكن من اللحم ولو على حساب عافيتها وصحتها). إن رعاية الأرض تفرض علينا تحدياً هائلاً وهو فهم هذه الأرض وفهم الأنظمة الطبيعية فيها وحاجات مكوناتها المختلفة، وتلعب المراقبة الواعية هنا دوراً كبيراً. على سبيل المثال يقوم المصمم قبل وضعه تصميم الأرض بمراقبتها لفترة طويلة وفهم الأنظمة الطبيعية الموجودة فيها، كنوع التربة وتوزع هطول المطر والأنواع النباتية والحيوانية الموجودة .. إلخ ويضع تصميمه بحيث يراعي حاجات جميع هذه المكونات ويساعد على تطورها وازدهارها، كأن يساعد على تعزيز خصوبة التربة وزيادة قدرتها على الاحتفاظ بالمياه وحماية الحيوانات والنباتات وتعزيز التنوع الحيوي في الموقع.

من الممكن أن نبدأ بتطبيق هذا الهدف من خلال ممارسات بسيطة أو بإدخال تغييرات على عاداتنا اليومية: الاعتماد على الموارد المتجددة، ترشيد استخدام الطاقة، إعادة التدوير، وحتى من خلال عاداتنا الاستهلاكية كالابتعاد عن المنتجات التي تشكل ضرراُ للبيئة مثل أكياس النايلون أو البذور المعدلة وراثياً، الاعتماد على المنتجات التي يمكن إعادة تعبئتها لتقليل حجم نفاياتنا.. ومع تعمق هذا المفهوم لدينا فإنه سيؤثر أكثر فأكثر على قراراتنا واختياراتنا..

رعاية الإنسان People Care:

البيرماكلتشر هي في جوهرها ثقافة مستدامة، وبما أن الإنسان هو محور هذه الثقافة وهو الكائن الأكثر تميزاً وأهمية فيجب أن يراعي التصميم كافة احتياجاته الأساسية كالهواء والغذاء، وغير الأساسية كالحاجات الاجتماعية، النفسية، والروحية. تبدأ رعاية الإنسان من الاعتناء بالنفس وبالصحة الجسدية والنفسية والروحية، فالإنسان المتعب لا يقدر على الاعتناء بغيره، ثم تتوسع لتشمل الدوائر الأقرب فالأقرب أي العائلة، الجيران فالمجتمع. المحور الأساسي لرعاية الإنسان هو التعاون والعمل الجماعي فهذه أفضل طريقة تتحقق بها مصالح الجميع.

من ناحية أخرى تتضمن رعاية الإنسان التمكين وذلك من خلال تحميلنا مسؤولياتنا كأفراد وكمجتمع تجاه وجودنا على الأرض بدل أن نلوم الآخرين ونطالبهم بالقيام بالمهمة. يسعى مجتمع البيرماكلتشر لتحقيق الاكتفاء الذاتي والاعتماد على النفس وبالتالي فهو يتحمل بنفسه مسؤولية استخدام الموارد المادية المتاحة بأعلى كفاءة ممكنة مع المحافظة عليها وعلى قدرتها على التجدد كما ذكرنا سابقاً، فلا ينتج أو يستهلك إلا ما هو ضروري.

وعلى هذا الأساس فقد انطلقت فلسفة البيرماكلتشر من رفض النموذج الغربي الرأسمالي للمجتمع والذي يقوم على الفردية والأنانية، المنافسة، المادية والحياة الاستهلاكية، فهذا المجتمع يخلق الفوارق الطبقية بين أولئك الذين يملكون المال والذين لا يملكونه وفيه تتحدد قيمة الإنسان بما يملكه، فهو يحصل على جميع حاجاته من تعليم وصحة وسكن وحتى حسن المعاملة فقط بقدر ما ينفق من مال، الأمر الذي يخلق حالة من الظلم والقهر وبالتالي العنف والاستبداد.

مشاركة الفوائض return of surplus:

وتسمى أيضاً الحصة العادلة Fair share، كما يشار إلى هذا الهدف في الكثير من المراجع على أنه وضع حدود للنمو والاستهلاك. يقوم هذا المبدأ على الاعتراف بأن للأرض موارد محدودة وأن علينا مشاركتها مع جميع الكائنات الحية وكذلك حفظها للأجيال القادمة. إذا شبهنا هذه الموارد المحدودة بفطيرة او رغيف فإن كل فرد سيكون له حصته العادلة، ومن يأخذ أكثر من حصته فإنه يتعدى على حق الآخرين. على سبيل المثال عندما نستهلك الموارد الطبيعية المتجددة كالمياه أو التربة أو الغابات بصورة تفوق قدرتها على التجدد، ونستزف الموارد غير المتجددة كالنفط بمعدلات مجنونة، فإننا نتعدى على حقوق أطفالنا والأجيال القادمة التي سترث منا أرضاً فقيرة منهوبة. ببساطة علينا أن نأخذ فقط ما نحتاجه، ونشارك ما لا نحتاجه، مدركين أن هناك حدوداً معينة لما يمكن أخذه أو منحه. كما أن أي فائض يتحقق يجب أن يكرس لرعاية الأرض والإنسان، لا أن يكون الهدف منه هو تحقيق المكاسب المادية كما هو الحال في الثقافة الاستهلاكية السائدة. هذا لا يعني بالطبع أن تحقيق الأرباح أمر مرفوض لكن الفكرة ألا يكون هدفاً بحد ذاته وإنما وسيلة للعناية بالأرض والإنسان.

على هذا الأساس يعتبر النموذج الحالي للنمو الاقتصادي، حيث الشمال الصناعي يستهلك من الموارد أضعافاً مضاعفة في حين يعيش الجنوب تحت ظل الفقر والاستغلال، هذا النموذج هو الظلم بعينه.. إنه ظلم للأرض وللبشر وحتى ظلم للنفس. إن النمو المتسارع لعادات الاستهلاك عند البشر، والذي يقابله انقراض الأنواع الحية ودمار الأنظمة البيئية، يجعل هذا النمط من النمو غير مستدام على الإطلاق، ويهدد بكوارث مدمرة لا يعرف بعد مداها.

يرى بعض الكتاب أنه بالإمكان اختصار هذه الأخلاقيات الثلاثة في واحدة وهي رعاية الأرض، فالإنسان هو جزء من الأرض ومشاركة الفوائض هي في النهاية رعاية للأرض. هذا برأيي يتفق تماماً مع مفهوم “عمارة الأرض” الذي تنادي به الأديان السماوية (والفطرة الإنسانية نفسها)، وتعتبره على أنه الواجب الرئيسي الذي وكل به الإنسان.

من الأمثلة الهامة على تطبيق هذه الأخلاقيات على نطاق واسع هو تصميم القرى البيئية التي تقوم على أساس البيرماكلتشر. حيث تتمتع هذه القرى بأنظمة مستدامة لإنتاج الغذاء ورعاية الحيوانات، أنظمة للطاقة البديلة، إدارة المياه والصرف الصحي، المساكن الصحية التي تراعي كافة احتياجات الإنسان المادية وحتى الجمالية، والأهم من هذا كله البنية المجتمعية القوية المتماسكة حيث يعمل الجميع معاً في انسجام وتناغم. (سنلقي المزيد من الضوء على موضوع القرى البيئية في مقالات قادمة إن شاء الله).

المصادر

بيل موليسون، كتاب دليل المصمم، 1988

http://www.permaculture.org/permaculture-ethics/

http://permacultureprinciples.com/ethics/people-care/

Dianne Christian Leaf, Creating a life together,

https://brightonpermaculture.org.uk/permaculture/ethics

http://www.permaculture.co.uk/articles/what-permaculture-part-1-ethics