ما هي مدن التحول؟

منذ ست سنوات مضت وتحديداً في أيرلندا انطلقت حركة “مدن التحول”، والآن هناك ما يقارب ألفي مدينة متحولة حول العالم منها العشرات في أستراليا وحدها. وبما أن هناك من يقول بأن هذه الحركة الواعدة هي أكثر الحركات الاجتماعية أهمية على وجه الأرض في وقتنا الحاضر لذا لا بد من أن نسأل: ما هي بالضبط مدن التحول؟

لفهم حركة التحول وأبعادها يجب أن ندرك أنها رد فعل على مجموعة من المشاكل الاجتماعية، البيئية والاقتصادية. فعلى مدى القرنين الماضيين شهدت المجتمعات الصناعية نمواً اقتصادياَ غير مسبوق يعتمد كمصدر للطاقة على الفحم والغاز والأهم النفط مستغلاً وفرتها ورخص ثمنها. وبالرغم من الفوائد التي جلبتها النهضة الصناعية فإن لها جانباً مظلماً يطغى على كل فوائدها ويهدد في يومنا هذا بالويل والثبور..

من الواضح أن هذا النمو الغير محدود قد سبب تدهوراً خطيراً في النظام البيئي نتيجة الاستهلاك المفرط للوقود الحجري الأمر الذي ساهم في تغير المناخ ناهيك عن عواقب أخرى خطيرة.. بالإضافة إلى كل هذا فإن تدفق النفط الخام – أهم مصدر للطاقة غير المتجددة في العالم- سوف يدخل في حالة جمود ثم ركود في المستقبل القريب، مما سيجعل النفط باهظ الثمن. هذا يعني أن المجتمعات الصناعية التي تعتمد بشكل أساسي على النفط ستضطر لمواجهة احتمال نضوب مصدر طاقتها الرئيسي، ولدفع فاتورة باهظة لنتائح أفعالها. من ناحية أخرى فإن هذه المجتمعات تعتمد نمط حياة ذا استهلاك عال جداً إلا أن هذا النمط لا يمكن تسميته حياة منتجة وذات معنى. بكلمات أخرى، الكل يعمل جاهداً لكي يمتلك الأفضل، لكنه في النهاية يشعر بعدم الرضا كون حياته موجهة فقط لاستهلاك المزيد. يبدو أن طريقنا نحو التقدم والحضارة الإنسانية يسير على منعطف ليس خاطئاً وحسب بل كارثياً، ومع ذلك فإن الرأسمالية الاستهلاكية تستمر في الانتشار بخطى ثابتة ومستمرة.
إذا كنا نأمل بأن تأخذ الحكومات الغربية على عاتقها مواجهة هذه التحديات الكبرى وتتفاعل معها بالطريقة الصحيحة فإن هذا الأمل يتضاءل في الحقيقة كل يوم. ففي آخر مؤتمر للبيئة في ريودي جانيرو، على سبيل المثال، خرج قادة الأقطاب السياسية في العالم بتعهد غير ملزم بإيجاد حلول للمشاكل الناجمة عن النمو الاقتصادي عن طريق تحفيز المزيد من النمو، وهذا أكبر دليل على أن حكومات العالم ليس لديها أي أفكار أو حلول وبالطبع لا تصور لديها للنتائج الكارثية التي ستنتج عن هذه المشاكل.
على ما يبدو أن أي حل لمشاكل اليوم الاجتماعية والاقتصادية والبيئية لن يتم على مستوى حكومي عال، لذا فإن الوقت قد حان لكي نتسلم نحن – الناس العاديين في المجتمعات العادية – زمام المبادرة لمواجهة هذه المشاكل بأنفسنا، على المستوى الشعبي.
من هنا فقد ظهرت حركة “مدن التحول” لتنتشر في المدن والقرى والضواحي وجميع أنحاء العالم. إن فقدان الأمل بقدرة الحكومات على حل هذه المشاكل جعل مجموعات من المواطنين تقرر أن تقوم بنفسها بما عجزت عنه حكوماتها، وذلك على مستوى المجتمعات المحلية والضواحي. في حين أنه يمكننا وصف هذه الحركة بأنها صادمة في تنبؤاتها حول ما سيحمله المستقبل من مشاكل تغير المناخ، ذروة النفط (مرحلة نضوب النفط)، وعدم الاستقرار الاقتصادي، إلا أن الصفة الغالبة على هذه الحركة هي في كونها إيجابية في تحديها للواقع. في الحقيقة أن الانتقال إلى نمط حياة جديد خال من الكربون هي نقلة نوعية تحقق الإنتاجية العالية وتحرر المجتمع من قيود عديدة وهو أمر أظهرته التجارب والوقائع.

أحد الأهداف الأساسية لمدن التحول النموذجية هو إعادة تحديد الاقتصاد وتغييره ليصبح غير منتج للكربون، ويصبح أقل اعتمادا على الاقتصاد العالمي والذي يعتمد بصورة أساسية على النفط. هذا يعني أن على المجتمع ككل أن يعمل – وعلى المدى الطويل- على استخدام الموارد المحلية لتلبية الاحتياجات المحلية. فعلى سبيل المثال، بدلا من الاعتماد على الأغذية المنتجة صناعياً التي يتم استيرادها من جميع أنحاء العالم فإن مدن التحول تحاول توسيع نطاق إنتاج الأغذية العضوية محلياً وتسويقها. وبدلا من الاعتماد على الوقود الأحفوري يتم اتخاذ خطوات جذرية للحد من استهلاك الطاقة والاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة في الوقت نفسه. وبدل اعتناق نمط الحياة الاستهلاكي فإن المشاركين في مدن التحول قد حرروا أنفسهم من سباق الجرذان، وأصبح لديهم تصور جديد مختلف “للحياة السعيدة”، كما أنهم اكتشفوا أن المشاركة في الأنشطة الاجتماعية ثروة لمن يملك الشجاعة للاشتراك والتفاعل فيها.

إلى جانب هذا التغيير في نمط الحياة فإن أحد المفاهيم الرئيسية لحركة مدن التحول هو “التكيف” أي رفع قدرة الفرد أو المجتمع على تحمل الصدمات الاجتماعية أو البيئية – تلك الصدمات التي يمكن توقع حصولها في المستقبل، عاجلا وليس آجلا، إذا كنا سنواصل السير على طريق النمو الاقتصادي بلا حدود. فمن أجل أن تصبح أكثر تكيفاً، تحتاج المجتمعات لأن تتعلم كيفية توفير احتياجاتها بالطرق التي كانت شائعة في ماض ليس ببعيد، بما في ذلك الملكيات المشتركة بدلا من وجود ملكية خاصة لكل فرد، إحياء المهارات التقليدية كإصلاح الملابس، حفظ المواد الغذائية، أو إيجاد طرق للتسلية والترفيه “مجاناً”!!. لحسن الحظ، فإن هذا الأسلوب في الحياة المستدام والمتكيف  مليء بأفراح خفية ومسرات غير متوقعة، بطريقة لا يمكن فهمها جيداً إلا بتجربتها.

بطبيعة الحال، نحن في بداية الطريق، والتحديات التي تواجه مدن التحول شاقة، على أقل تقدير. مما لا شك فيه أنه لن يكون سهلاً بناء نمط حياة جديد، يمتاز ببساطته إذا ما قورن بالحضارة الصناعية. الكل سيتآمر ضدنا. ولكن في هذه الأوقات الصعبة والحالكة الظلمة فإن حركة “مدن التحول” تضيء شعلة أمل يزداد بريقها اشتعالاً وضياء يوماً بعد يوم..

فلتبدأ المغامرة.. استمتعوا معنا!

سامويل ألكسندر: مدير معهد سمبليستي (الحياة البسيطة) ومحاضر حول ثقافة الاستهلاك والاستدامة في قسم برامج البيئة لدى جامعة ملبورن، صاحب زاوية دائمة في مجلة سمبليستي كوللكتف، ومؤسس مشروع حياة أبسط

Dr. Samuel Alexander is co-director of the Simplicity Institute and a lecturer in ‘Consumerism and Sustainability’ at the Office for Environmental Programs, University of Melbourne. He also writes regularly at the Simplicity Collective and helped create The Simpler Way Project.

انقر هنا للرجوع إلى المقال الأصلي

ترجمة دانية عطار